فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [36].
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي: أذهبهما عن الجنة، وأبعدهما. يقال: زلّ عن مرتبته، وزل عني ذاك، إذا ذهب عنك، وزلّ من الشهر كذا. وقال ابن جرير: فأزلهما، بتشديد اللام، بمعنى استزلهما، من قولك زلّ الرجل في دينه، إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيان فيه، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه. وقرئ: {فأَزالهما} بالألف، من التنحية: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من الرغَد والنعيم والكرامة: {وقلنا اهبطوا} أي: انزلوا إلى الأرض، خطاب لآدم وحواء والشيطان، أو خطاب لآدم وحواء خاصة، لقوله في الآية الأخرى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه: 123]، وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس، فكأنهما الإنس كلهم: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} متعادين يبغي بعضكم على بعض: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} منزل وموضع استقرار: {وَمَتَاعٌ} تمتع بالعيش: {إِلَى حِينٍ} أي: إلى الموت.

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [37].
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} استقبلها بالأخذ والقبول، والعمل بها حين علمها. قال ابن جرير: وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلاً بقيلها إلى ربه، معترفاً بذنبه، وهو قوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، فدعا بها لكي تكون عنواناً له ولأولاده على التوبة: {فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجع عليه بالرحمة والقبول، وتجاوز عنه، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} في الجمع بين الإسمين، وعدٌ للتائب بالإحسان مع العفو.

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [38].
{قُلْنَا} لآدم وحواء: {اهْبِطُواْ مِنْهَا} من الجنة: {جَمِيعاً} ثم ذكر ذرية آدم فقال: {فَإِمَّا} بإدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة: {يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} كتاب أنزله عليكم، ورسول أبعثه إليكم: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أقبل على الهدى وقبل: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [39].
{وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بالكتاب والرسول: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يموتون ولا يخرجون.
تنبيه:
إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكد والإيذان بتحتم مقتضاه، وتحققه لا محالة. أو لاختلاف ولمقصود. فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون. والثاني أشعر بأنهم أُهبطوا للتكليف. فمن اتبع الهدى نجا. ومن ضله هلك.
فوائد:
الأولى: ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أُهبط منها آدم عليه السلام، كانت في الأرض. قال بعضهم: هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء. وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً} [البقرة: 61]، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أن هذه الجنة: لو كانت هي دار الثواب، لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد، لَمَا لحقه الغرور من الشيطان بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120]، ولَمَا صح قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20].
وثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
وثالثها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء، لكان ذلك أولى بالذكر، لأن نقله من الأرض إلى السماء، من أعظم النعم. فدل ذلك على أنه لم يحصل. وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد.
ورابعها: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة».
قال ابن مفلح: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد، دار الثواب. ثم قال: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدَّة، أو غير ذلك، فهو من الملحدة المبتدعين. والكتاب والسنة يردان هذا القول. وقد استوفى الكلام فيها في مفتاح دار السعادة وكتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
الفائدة الثانية: اتفق الناس أن الشيطان كان متولياً إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} [طه: 120]، وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، ومقاسمته لهما: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. والمقاسمة ظاهرها المشافهة، ومنهم من قال: كان ذلك بالوسوسة، كما قال: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20]، فإغوؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها. والوسوسة: لغة، حديث النفس والأفكار، وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير، والكلام الخفي. وظاهر الآيات يؤيد القول الأول.
الفائدة الثالثة: لم يسمَّ الشيطان في الآية، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه، كما تقدم في الشجرة.
ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً، وذكر مبدأهم- دعا بني إسرائيل خصوصاً، وهم اليهود، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم- من هنا إلى الآية رقم 142- فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم. وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها، كما سيأتي تفصيله، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [40].
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أولاد يعقوب. وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا، ويا ابن العالم، اطلب العلم، {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل: اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكونَ ما سلف منه إلى آبائهم على ذِكْرٍ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} العهد هو الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة: 12]، الآية. فعهد الله هو وصيته لهم، بما ذكر في الآية. ومنها: الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة. وعهده تعالى إياهم، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قال ابن جرير: أي: اخشوني واتقوا، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، أن أُحلّ بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللت بمن خالف أمري، وكذب رسلي من أسلافكم.

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [41].
{وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} أي: من القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} أي: موافقاً بالتوحيد، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، وبعض الشرائع، لما معكم من الكتاب كما في التنوير قال ابن جرير: أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقاً منهم للتوراة؛ لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد، تصديق منهم لما معهم من التوراة. وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة. انتهى.
وتقييد المنزَّل بكونه مصدقاً لما معهم، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعاً.
تنبيه:
كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، كآية: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89]، وآية: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: 37] وغيرهما. مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة، وقد رُد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه، بأن معنى كون القرآن مصدقاً لما معهم، ما ذكرناه قبل في تأويلها، وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته، وصحة البشائر عنه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} أي: أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل، وبمعنى أن أحواله جميعاً توافق البشائر.
{وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه. فالأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه، والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم،، فلما بعث كان أمرهم على العكس، لقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، فالاشتراء استعارة للاستبدال {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن حطام الدنيا.

.تفسير الآيات (42- 43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [42- 43].
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} اللبس الخلط، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين. والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر، وقوله: {وَتَكْتُمُواْ} مجزوم داخل تحت حكم النهي. وتكرير الحق، لزيادة تقبيح المنهي عنه؛ إذ في التصريح باسم الحق، ما ليس في ضميره، والتقييد بقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} لزيادة تقبيح حالهم؛ إذ الجاهل عسى يعذر، وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} الآية، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها والمحافظة عليها، وإعطاء الصدقة المفروضة، والركوع لله، أي: الخضوع لأوامره بإطاعتها.
قال ابن جرير: هذا أمر من الله جل ثناؤه، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخول مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، وبعد الإعذار لهم والإنذار، وبعد تذكيره نعمه إليهم، وإلى أسلافهم تعطفاً منه بذلك عليهم، وإبلاغاً إليهم في المقدرة.
وقد قيل في قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} حث على إقامة الصلاة في الجماعة؛ لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة.

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [44].
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي: بما فيه لله رضا من القول أو الفعل. وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى. والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي: تتركونها من البر كالمنسيات. والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره. وقوله: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تبكيت مثل قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني تتلون التوراة، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر، ومخالفة القولِ العملَ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه.
روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النَّخَعِي قال: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]، وقوله إخباراً عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [45].
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ} أي: على الوفاء بالعهد: {وَالصَّلاَةِ} أي: التي سرها خشوع القلب للرب. فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر. قال ابن جرير: أي: استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي، واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه، والصلاة. فالآية متصلة بما قبلها، كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة، والإعراض عن المال عولجوا بذلك {وَإِنَّهَا} الضمير للصلاة، وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها، واشتمالها على ضروب من الصبر، وجُوّز عود الضمير على الاستعانة بهما: {لَكَبِيرَة} لشاقة ثقيلة كقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.